قرب نهاية الليل و قبل بزوغ الشمس بحوالي ساعتين و أكثر .. وقفت الفصيلة على شكل طوابير منتظمة الشكل في أبعد أركان باحة مركز التدريب، متكوم أمامهم كومة من الخردة من أشياء عجيبة ليس من المفترض أن تكون موحوه لا في هذا الزمان و لا المكان .. يقف أمامهم ضابط المركز يده خلف ظهرة و بجانبه ناجي الأزهري يقف مرتديا زيا غريبا ليس له علاقة بالزمن المعاصر الذين نعيشه الآن – درع من المعدن منقوش عليه كلمات باللغة العربية غير واضحة القراءة و سيف طويل يسند به على الأرض كأنه عصا – قاطع الضابط عادل الدميري هذا الصمت قائلا:
ــ طبعا اللي بيحصل معاكوا محدش من بقية الفصايل يعرف حاجة عنه .. كلها طراطيش كلام، زي ما حد من فصيلتكوا و اللي هو عمرو العاصي ورطنا التوريطة دي يبقى هو و فصيلته هما اللي يحلوها .. ناجي الأزهري جاب الأسلحة اللي تنفع مع الدور الخامس و الباقي عليكوا .. ناجي.
تقدم ناجي خطوة للأمام بزيه العجيب و قال:
ــ الجن اللي فوق طالبين رأس عمرو زميلكوا بالإسم و إلا هينزلوا علينا كلنا يهلوسنا و يركبونا وعلى ما تجلنا أي نجدة من القاهرة تلحقنا هنكون كلنا ضعنا، يا نسلمهم رقبة عمرو يا نطلعلهم فوق و نعرفهم اننا مبنهربش و مبنبعش حد مننا.. أحنا واقفين في أبعد حتة في حوش المركز بس هما أكيد سمعنا دلوقتي و جاهزين كمان .. أنا جايب لبس يحصنا و أسلحة تخترقهم يكفي خمسة أول اتنين هيبقى أنا و عمرو طبعا و مستنين تلاتة منكو يطوعوا يجوا معانا .. مين جي معانا.
أنهى ناجي كلامه و عم الصمت المكان متوقعا أن يتهافت المجندين على التطوع و لكن لم يرفع أحد يده و بعد برهة تقدم عمرو يقف بجانب ناجي، ثم رفع محمد الطحلاوي يده متقدما ليقف بجانب كل من ناجي و عمرو، و في تردد و يد مهزوزة رفع السباعي يده مرتعشة ثم تقدم يقف جانبهم، صمت الجميع و لم يرفع أحد آخر يده للتطوع في هذا الأمر المجنون.
ــ أنا هاخد معايا الواد غمري قلبه ميت.
قالها ناجي للضابط عادل الذي أومأ برأسه موافقا ثم أشار لبقية الفصيلة أن تنصرف و بقى المتطوعين الخمسة الذين سيقتحمون الدور الخامس من المبنى الاوحد من معسكر المماليك.
تفحص الأربعة الباقيين تلك الأسلحة الغريبة التي أتى بها ناجي من بلدته، بالفعل تكفى لأربع أشخاص .. دروع صدرية من المعدن، منهم من يرتديهم من الأعلى كالقميص و منهم من يعقد أزراره كالقميص من الأمام، أرتدي عمرو و الطحلاوي تلك الدروع التي تغلق من الأمام بالأزرار و السباعي و الغمري ارتدوا الدروع الأخري .. اشتركت تلك الدروع في الكلمات المنقوشة عليها، ببعض التدقيق تعرف أنها نفس الكلمات.
وقف الأربعة المصاحبين لناجي ينظرون للسيوف الملقاة أرضا محتارين في اختيار أسلختهم التي منقوش عليها هي الأخري كلمات غير مفهومة بالعربية .. قطع ناجي حيرتهم و انحنى يختار لكل واحد منهم سلاح من الأسلحة – سيوف هلالية و سيوف التي يرأسها كرة حديدة و سلسلة حديدة.
وقفوا ينظرون لتلك الأسلحة العجيبة في يدهم ثم قال الطحلاوي مدققا في السيف الهلالي في يده:
ـــ ايه لزمة الأسلحة دي كلها يا ناجي.
رد ناجي: ـــ من غير اللبس اللي احنا لبسينه و الأسلحة دي منعرفش نتعامل مع الجن، الحاجات دي هتخليهم مرئين و ملموسين فنعرف نقتلهم .. خلي بالكم لازم تركزوا و متخافوش حياتنا أو حياة عمرو .. امسكوا الأسلحة و جربوها و اتعودواا علي الضرب بيها عشان تتعودوا على تقلها، و اجهزوا عشر دقايق و هنطلع.
تبقى ذلك الخنجر أرضا وحيدا فالتقطه عمرو في خفة مستعدا للصعود للدور الخامس لتبدأ المعركة.
القمر يضيء المكان بجانب الإضاءة الحمراء المنبعثة من المصابيح القليلة المتناثرة في أرجاء المبنى، سلم المبنى واسع، يتسع لصعودهم الخمسة بجانب بعضهم – ناجي و عمرو و الطحلاوي و السباعي و غمري- متأهبين بتلك الأسلحة مرتدين تلك الدروع المعدنية المنقوش عليها كلاما بالعربية .. وصلوا للدور الخامس و هدأت خطواتهم، مترقبين، مستعدين، متحفزين، متوترين، و صلوا للدور الخامس – الدور الموعود – تقدمهم ناجي و خلفة عمرو ثم بالترتيب الطحلاوي و السباعي و غمري .. بخطى بطيئة مترقبة، يبحثون بأعينهم في المكان منتظرين أي جسم في حدود الجسد البشري يظهر من أي مكان.
وقفوا الستة في مكانهم منتظرين قابضين على سيوفهم .. نعم هم الستة .. هناك شخص سادس يقف خلف الغمري لا يمسك سيف و لكنه يقف قريبا للغاية من الغمري.
توقف الوقت قليلا .. كل منهم يتمنى أن يكون هذا كابوسا آن له أن ينتهي .. يسمع كل منهم نبضات قلوبهم بعضا و سط صوت الرياح، التفت ناجي لهم - بعد أن كانت ظهروهم لبعض - ليحدث أي تغيير، وقف ينظر لهم في أعينهم ثم انعقد حاجباه في شدة عندما رأي هذا الذي يقف خلف الغمري فبدون تردد هتف:
ــ غاااااااااامري.
صرخ بها ناجي.
التفت غمري بسرعة مطوحا بسلاحه في أي اتجاه،فد فبمهارة وسرعة غير طبيعية فادى هذا الجسد السيف ثم مسك قدم الغمري أوقعه ثم جره ساحبا إياه للغرفة الفارغة المظلمة المجاورة ليختفيا فيها .. صادر منها صراخ كصراخ النساء .. نااااجي .. نااااجي.
ظهر ذلك الطيف من خلف السباعي ليحيط عنقه بذراعه مكبلا حركته .. طوح السباعي سيفه يمينا و يسارا بحلاوة روح و لكن ذلك الجسد رجع للخلف حتى و صل للسور ثم قذف السباعي بقوة من الدور الخامس ليسقط أرضا جثة هامدة.
كلما سبق حدث بسرعة و في نفس اللحظة أمام أعين الباقيين، الصق عمرو و الطحلاوي ظهورهم ببعض قابضين على سيوفهم حتى قال لهم ناجي:
ــ متسمرين كده ليه أتحركوا يلا .. هنموت كده.
أخذ عمرو الخطوة و بمهارة ولياقة تدل على تمرسه القتال، رأي ذلك الجسد الهلامي – أطول منه قليلا – يقترب منه و بحركة مزدوجة منه تفادى الضربة الموجهة له ثم غرس السيف في بطنه ليشقها، وقع الجن ثم ابتلعته الأرض ليختفي .. تجرأ عمرو و اندفع لقتال غيره .. ناجي و الطحلاوي أيضا تجزؤا بعد عمرو و ركلا و لكما و غرسا نصال سيوفهم، شقوا البطون و قسموا الظهور و قطعوا الأيدي و الأدرع و الأوتار و الرقاب، خرقوا الأعين.
طال القتال و سهل عليهم قتل الجن، حتى مر من الوقت الكثير و هم يقاتلون بلا هوادة أو توقف .. انهكهم التعب و ظهر عليهم، لكن التعب لم ينل من عمرو، استمر في القتال و لكن في وسط تلك الأحداث تذكر شئ مهم للغاية قد اخبرهم به ناجي الذي اخبرهم سابقا: (كنت واقف قدام واحد من الجن شكله الريس بتاعهم و واقف وارايا اربع افراد من الحن) اذا من المفترض أن يقاتل خمسة من الجن و لكنه يقاتل بلا توقف منذ ما يقرب من الساعة .. لمح عمرو التعب في جفون ناجي و الطحلاوي ثم قال:
ــ دلوقتي.
قذف سيفة المنقوش عليه بالعربية ليخترق صدر أحد من الجن المحيطين به، ثم انحنى ليخرج من جورب يمينه ذلك الخنجر المنقوش عليه بالعربية من ضمن الأسلحة التي احضرها ناجي، و من جورب يساره اخرج خنجر عادي تماما غير منقوش عليه أي كتابات .. عندما اخرج الخنجرين ممسكا بهم توقفت الحركة و خرج خمسة من الجن من أماكنهم، منهم من ينزل مخترقا السقف بيسر و منهم من يأتي من الأسفل و منهم من خرج من جسد الأخر .. و كان هذا الترتيب.
عمرو ممسكا الخنجرين.. أمامه خمسة من الجن .. الطحلاوي و من خلفه ناجي.
نظر ناجي لعمرو الذي يمسك الخنجرين و فهم .. و بحركة غادرة انقض على الطحلاوي الذي يقف مذهول من ظهره مكبلا ذراعية، و غرس نصل سيفه القصير بجانبه جابرا إياه أن يتحرك معه للروف الخارجي من نفس الدور .. انسحب كبير الجن مع ناجي للخارج، تاركين عمرو مع الأربعة من الحن.
انعقد حاجبي عمرو للغاية من تصرف ناجي الغادر و الذي كان يخشاه منذ البداية، عقد العزم و استعد لخوض هذا القتال مع آخر اربعه من الحن .. ضم الخنجرين على بعض ليصنع منهم خنجر واحد في يد واحدة .. و بتحفز واضح و تحدي انقض الخمسة على بعض .. عمرو و اربعة.
أحتدمت المعركة بين عمرو و الحن الأربعة .. سرعة و تفادي و لكمات و ركلات و انقضاض .. انغرس الخنجر المزدوج الذي صنعه عمرو في بطن الأول ، قفز و تدحرج ثم طعن الثاني من الخلف .. تكبيل و محاولات ثم تكالب ثم إفلات ثم قطع رقبة الثالث من الخلف .. جري ثم جري ثم جري ثم اخترق الرابع.
قام عمرو من قفزته ناظرا خلفه فوجد الأجساد التي قتلها الآن ملقاة أرضا جثث هامدة .. و قتلت هذه المرة بالفعل ليس عليه مقاتلتهم للأبد كما حدث منذ قليل .. ترك المكان ليلحق بناجي و كبير الجن و الطحلاوي.
وقف ناجي و مازال مكبلا جسد الطحلاوي تحت تهديد السيف، منتظرا أما أن يأته خبر عمرو أو يأتي عمرو بنفسه .. حتى دخل عليه يبدو عليه الإنهاك فقال له له ناجي:
ــ انت قتلتهم ازاي .. المفروض ميمموتوش.
نظر له عمرو بغضب شديد و هو مازال يلتقط أنفاسة و قال:
ــ كنت حاسس انك معاهم من الأول.
ــ مش بأيدي يا ابن عمي .. بس لازم نطيعهم .. خليك واقف مكانك و الا هخلي الطحلاوي يدفع تمنك.
ــ من ساعة ما دخلت المركز و سيطرتك على كل حاجة فيه بشكل غير مباشر و الناس اللي الخوف اللي انت مخليه مسيطر على تفكيرهم و بيسمعوا كلامك من غير تفكير عشان فكرينك بتحميهم من أسيادك .. و السلاسل الفارغة اللي ملبسهلنا و الظروف ساعدتك ان في واحد منهم اتجمد لأنه كان بيراقبني وقت العاصفة ، و استغلت الموضوع عشان تقنع الناس ان السلسلة هي اللي بتحميهم .. و كل صلاة اللي بنخلينا نصليها سبع مرات و التخاريف دي كلها من خيالك .. في الحقيقة انا كنت هبلعها زيهم لغاية لما عملت التمثيلية اللي عملتها في المسجد و نسيت ان المسجد متحصن و مستحيل مخلوق يخشة غير البني آدمين، ساعتها شكيت فيك.
ــ عشان كده صليت برة المسجد آخر مرة.
ابتسم عمرو و قال:
ــ انت لقتطها؟؟!! .. انا صحيح مش بشتغل مع ابويا .. بس بعرف اشتغل الشغل ده كويس قوي .. انا فعلا كنت ساجد على الأرض بس مكنتش بصلي انا كنت بسمع قريني - بس أنا قريني مبطلعوش فوق الأرض - اللي عرفني عنك كل حاجة و تاريخك و تاريخ عيلتك القذر .. انتو اللي زيكو لازم يتحرق صاحي.
حاول عمرو أن يخطو للأمام فقال ناجي بصوت هادر:
ــ متتحركش يا عمرو .. انت ايه اللي خلاك تتعدبس ورايا.
ــ حاجة بسيطة خت بالي منها و انت بتتكلم مع الضابط عادل قدامي لما قولت (الأسلحة اللي بتقضي عليهم لازم يكون محفور عليها طلاسم قتل الجان).
ــ و ايه اللي في كده خلاك تتدعبس ورايا.
ــ لما قلت الجملة دي و قولت كلمة جان بالطريقة دي .. لفتت نظري لأسمك و خلتني أنزل اتأكد من تاريخك كله لما لقتوني ساجد على الأرض.
انعقد حاجبي ناجي للغاية في غضب شديد و فهم ما يرمي اليه عمرو و لكنه سأل:
ــ ماله اسمي يا عمرو.
ــ ناجِ هي هي جان بالعكس .. انت خدام عندهم و ابوك كان بيتقربلهم فسماك .. جان.
ــ انت فعلا تستاهل تموت.
ــ و طبعا اسلحتك و دروعك اللي تعبت نفسك و جبتها من بلدكوا دي اللي بتخليينا نتلمس منهم و الأسلحة اللي عليها طلاسم تمنع موتهم بس أنا مكنتش مأمنلك عشان كده خدت معايا الخنجر العادي .. كان ممكن تسلمني ليهم أسهل بكتير من اللي الناس اللي ملهاش ذنب و ماتت.
ــ كان لازم يكون في ضحايا عشان الخوف يفضل مسيطر عليهم و محدش يتمرد عليا .. لو سلمتك للجن بالساهل كان فيهم اللي الشهامة هتخدوا و يرفض و يخرجوا برة طوعي.
في آخر حديثهم ذلك دخل عليهم الضابط عادل شاهرا مسدسه في وجه ناجي واقفا بجانب عمرو و قال:
ــ الكلام اللي أنا سمعته ده صح يا ناجي؟؟
ــ اللي جابك دلوقتي يا باشا أنزل احسنلك.
رد عادل و هو مازال شاهرا مسدسه:
ــ سيب الطحلاوي يا ناجي.
ــ ابعد انت يا باشا عشان متتلطش.
أخرج عمرو الخنجر المطلسم من جورب رجله ليقطع تلك الحبال التي تربط درعه .. ظنا منه أن الموقف انتهى و لكن قبل قطع الخيط كُبل من خلفه بقوة .. الجن ليس بكائن آدمي شفاف و لا مثل الماء و لكن في بعض الأحيان يكون مثل البخار بدون ملامح واضحة .. تحرك عادل ليصوب مسدسه للجن الذي يكبل عمرو.
قال ناجي بصراخ:
ــ امشي انت يا باشا أنت مش قد اللي احنا فيه دلوقتي.
أخذ عمرو يلوح بيده يمينا و يسارا لينقذ نفسه .. و لكنها كانت حركات للإلهاء فقط فبحركة مزدوجة وسط تلويحه أخرج خنجره العادي – و لأن الدرع هو الشء الذي يجعله ملموس للجن – و قطع به رباط الدرع من منتصفه و خرج منه تارك الجن ماسكا إياه فارغا .. ثم بحركة أسرع ضم الخنجرين – العادي و المطلسم - على بعض في كف واحد و دار بسرعة ضاربا رأسه ليفصل رأس الجن عن جسده .. وقعت الرأس منفصلة عن الجسد ثم سمعوا جميعا صراخ هذا الجن مدوي متردد في السماء.
تجمد المشهد على هذا .. التفت الضابط مصوبا مسدسه لناجي الذي لم يكن يتخيل أن يقتل سيدهم فنظر لهم ثم ترك الطحلاوي الذي هرول متدحرجا حتى وقف على مسافة ليست قريبة يراقب الموقف .. ثم امسك ناجي نصل سيفه بقبضتيه و غرسه في بطنه بمنتهى القوة ليتلوى على الأرض من الألم و الدماء تخرج من فمه .. ليؤذن بحرية عمرو و المعسكر جميعا من سجن الخوف الذي كان يملأ كيانهم.
تمت.
مع تحياتي .. معتز حجازي.