نحن ليس الآن.
لقد رجعت.
للبداية.
ليس أي بداية.
بداية البداية .. أول بداية.
قبل الفراعنة، و قبل أي حضارة معروفة .. بكور الأرض .. ليس للتراب معنى و إنما الغبار مهنى للمستنشقين .. المياة صافية شفافة كالجلد الابيض و الالوان ناطقة بالكلام بدرجات لم نراها و لم يروي أحد عنها من قبل و سطوع الشمس نعمة تنتظرها الأحياء.
بالمعنى الدارج .. واحة .. مليئة بالأشجار و بحيرة كبيرة من المياة العذبة النقية الجديدة لم يقص شريطها بعد.
تسحبت أنامل رفيعة تزيح بعض الأغصان من أمام فتحات أعينها اللامعة لتذهب بنظرها بعيداا عند البحيرة .. سمعت صوت غريب وسط أصوات الشجر و الحشرات و الزواحف و الحيوانات الصديقة، صوت ليس مألوفا لما ألفته .. فقامت تتفقده .. وجدته يقف هناك عند البحيرة .. أنه مثلها .. نفس التكوين .. ذرعان ورجلان و جذع و لكن بدون أولئك البروزان في تلك المنطقة بعد الرقبة الذي تملكه .. بل و نفس الملبس .. أنه يشبهها و لكنها لازالت لا تري وجهه فهو يشرب من المياة و يضعه على نفسه .. وقفت مكانها تراقبه، نزلت بركبتيها على الأرض .. جاء غزال جديد تنصع الوانه يقف عن يمينها فأشارت له أن يجلس فجلس في طاعة و جاء عن يسارها قرد يتقافز و يصدر أصوات مزعجة أشارت بأصبعها أن يسكت فسكت و سكن الثلاثة ينظرون للغريب الذي مازال يضع المياة على أعضاءه .. حتي إستدار و وقف ينظر يمينا و شمالا و هو ممسك عصاة القوية الطويلة.
تفرست ملامحة بقوة لتقارن بمن تعرفه و تتمناه و لكن هناك إختلافات في كل شئ، شعره الذي فوق رأسه لم يكن على هذه الهيئة و تلك الِاشياء السوداء المتلصقه بذقنه و وجنتيه و تحت أنفه لم تكن موجوده أيضا .. و لكنها لا تحتاج لدلائل تراها بعينيها، فهي تشعر به و كانت تعلم أن العثور قد إقترب و تنتظره منذ أكثر من ربعمائة شمس .. فإن لم تعرفه عيناها فبصيرتها كافية .. لتذهب إليه و تقترب منه و تنظر في فتحات وجه .. قامت من مكانها أعدلت هندامها البسيط التي ترتديه الذي لا تملك و لا تعرف غيره، خلخلت شعرها بأصابعها تصففه سريعا لملمت شعرها الطويل في قبضتها ثم وضعته على كتفها لتبرز جمال شكلها .. أزاحت أوراق الشجر و خرجت ليراها جيدا من مكانه، و من أنعم الحبال الصوتية التي وجدت قالت:
ـــ آدم؟؟!!!
في مشهد مكرر لنا جميعا و لكن هم أول من صنعوه .. أقتربا من بعضهما في بطئ غير مصدقين فهي لا تصدق إنها تراه و لا آدم يصدق أنه وجدها ، تقدما الخطى حتى وقفا أمام بعض ينظران لبعض .. لقد أيقنت أنه آدم و لكن هناك بعض التغيرات في وجهه التي لا تفهمها و لكنها ستسأله عنها فيما بعد إنما الآن فهي لا تريد شيئا غير إنها تنظر إليه فقط .. تتفحصة و تتمحصه فوجهه أكله لا تشبع و لا تمل منها .. قال آدم و ذرات الحب تتساقط من جانبي فمه:
ـــ حياة؟؟؟!!!
أمسكا يد بعضهما في قوة و كأن هناك ما يمكن أن يأخذهما من بعضهما مرة أخري فتتشبثا ببعضهم لمنع ذلك، أزاح آدم خصلة شعر تنسدل على جبهة حياة يضعها خلف أذنها ثم أمسك أذنهاالصغيرة يلوكها بين أصابعه يتأكد من إنها حقيقية و ليست أوهام أو أحلام كالتي كان يراها و هو نائم و بدون إتفاق مسبق جريا سويا ممسكين بيد بعضهما حتى إقتربا من شاطئ البحيرة الهادئ ثم جلسا على ركبهم و رفعوا يدهم للسماء شاكرين الله أنه الهمهم الطريق و الكيفية أن يجدا بعضهم و لا يفترقا أكثر من ذلك.
" ياواجد النور و ما بعد النور أحمدك على كل شئ و أستعين بك على أي شئ أحمدك إنك اخرجتنا من جمالك لجمال آخر لم نكونه من قبل، يا رب كل رب و أول كل أول إنك تعلم إنني لم أكن أفتش في الأشياء إلا للقائها و لم أنتظر ذهاب النور حتى أكرر البحث ثانية بعد مجيئة، بعظمة حضوري أمامك لا تحرمني منها و لا تجعل فتحات وجهي تبعد عنها كما يغيب النور عنا"
ذلك كان آدم .. أما حياة فكانت تدعي " لم تتركني وحيدة أبدا و مع كل صعود نور ترسل لي من يحمل عني حزني لفقده، تصبرني بالجمال الجديد و ما يملأه من جمالات أخرى .. يا مالك ملك ملكي أنزل على القدرة لأكون مثل عصا الشجرة التي يمسكه آدم في طرفه، أيقن إنك ستجيبني لتجعلنا بناء لا يخل و لا يلهو"
أنهيا دعائهما ثم نظرا لبعضهما محدقين .. تصاعدت مشاعر غير مسبوقة في صدر حياة فهي لم يسبق لها أن تفقده و من ثم تجده ثانية، زاد خفقان قلبها سريعا و هي تنظر له ثم ..
ـــ ما بك حياة .. ما هذا؟
رفع إصبعه و وضعه على على و جنة حياة و مسح أول دمعة نسائية في حياة البشر ثم نظر لإصبعه المبلل من دموع حياة و قال :
ــ ما هذا، حياة .. أتبرزين زادا؟
هزت حياة رأسها علامة الجهل .. و وضع إصبعه في فيه يتذوق دموع حياة ثم هز رأسه يمينا و يسارا ثم قال:
ـــ إنها لا شئ .. و لكن يبدو أن هذه الأشياء تبرز من فتحات و جهك عند فرحك.
رفعت أناملها الرقيقة و أمسكت شعيرات شاربه ثم سألته:
ـــ ماهذا .. أدم ؟
رد آدم:
ـــ لم أحط به خبرا ،حياة .. و لكن هي جمال من جمالات الله التي جلبت لي منذ أن توجدنا هنا.
ـثم بحركة لا إرادية أنثوية نابته من غريزة حب البقاء أمسكت حياة كتفي آدم خوفا و رعشا و هي تقترب منه للغاية حتي جلست على فخذية لملأ نفسها بالرعب .. سمعا صوتا عاليا، زأيرا قويا للغاية جاء مباغتا من خلفهما مباشرة .. إستدار آدم خلفه يتفقد الصوت و يحتضن حياة ليحميها فو جدا أمامهما .. ليث يريد أن يفرقهما ثانية بعد أن أجتمعا.
(بعد الهبوط) حلقات منفصلة متصلة، نعيش فيها مع آدم و حياة أول حياتنا، أنتظرو ا البقية لنعلم ماذا سيفعل أدم و حياة مع الليث الذي يفسد واقعهم الجميل.
وقف آدم أمام الليث الضخم الكبير و حياة تقف خلفة متشبثة به بقوة و الخوف مغلغلها، أمسك آدم عصاته بقوة ليدافع عن حياته و حياة .. إقترب منه الأسد في خطوات بطيئة يخرج من أنيابة زئيرا مكتوما .. بادلة آدم خطوات بطيئة للخلف ثم أبعد حياة عن جسده ة هو يشير لها أن تذهب بعيدا للإختباء قائلا:
ـــ لليمين هناك.
تركت حياة جسد آدم و ركضت بعيدا للإختباء خلف صخرة كبيرة، حاول الأسد أن يجري خلفها و لكن آدم أعترض طريقة و هو يلوح بالعصا في وجهه ليمنعه .. يحاول الليث الإنقضاض على آدم و لكن آدم كان يناوره بمهارة يبدو أن أن تلك الفترة التي قضاها منفردا بدون حياة كانت قاسية و تعلم منها الكثير .. أخذ يناوره يمينا و يسارا يرسل له ضربة بالعصا من هنا تارة و من هناك تارة أخرى، جلست حياة خلف الصخرة تراقب مايحدث في خوف شديد و لكنها أيضا كانت تراقب نفسها .. حركة صدرها في العلو و الهبوط أزادت سرعه و تعالت صدمات غريبة من داخل صدرها بقوة .. بدأ تظهر لها خيالات و صور أن ذلك الأسد سينهى وجود آدم أنيسها و خليلها و الزوج الذي عاشت فترة كبيرة من الزمن تنتظره .. و توالت أسئلة كثيرة و هي تتابع المعركة، هل سينتهي كل شئ بتلك البساطة .. نقضي بعض الوقت الجميل سويا في جنة الله المثلى ثم أحبه و لا أجد معنى للوجود بدونه وبعد ذلك ننزل الجنة الدنيا و نضيع من بعضنا وقت طويل ثم عندما ألاقيه يجهز عليه ذلك الآكل .. تعالى صوت البقاء على صوت الخوف بداخلها .. قامت من خلف الصخرة و هي تتابع آدم بعينها و بأول توقع أنثوي في التاريخ رأت أن دفة الهزيمة تميل لآدم و أنه سيؤكل حتما .. نظرت يمينا للأشجار و يسارا للبحيرة و على الأرض من تحتها و لكن التوتر مازال يمسك مقود تفكيرها .. أغمضت جفونها بقوة فطردت دموع وليدة، ثم أمسكت شعرها الطويل و أخذت تبرمه حتى صنعت من كعكه فوق رأسها لكي لا تشتت إنتباهها ثم فتحت عينها و ركضت نحو الأشجار لتجلب شيئا ما.
أنهك آدم للغاية من ذلك الليث الضخم، فقد قاتل حيوانات آكلة من قبل و لكن ليس ذلك النوع و لا ذلك الحجم.. أجهز الأسد عليه و بضربة قوية من مخالبه أوقع العصا من يد آدم بعيدا .. أصبح آدم مستلقيا أرضا و الجروح الصغيرة تملأ ذراعية و الأسد يزأر عاليا رافعا رأسه لأعلى و يرفع كلتا يديه لأعلى مستعدا لينقض الإنقضاضة الأخيرة.
بخفة غير محسوبة ركضت حياة بقوة ناحية الأسد و هي تمسك تلك الحبال التي أحضرتها من أشجار الواحة .. مسحت دموع عينيها الغزيرة لتوضح لنفسها الرؤيا و هي تركض، ثم قفزت عاليا تعتلي ظهر الأسد و كأنها فارس يعتلي حصانه و ترمي الحبل بقوة ليلتف حول رقبتة الأسد .. إنزعج الأسد كثيرا من فعلها و تألم فأخذ يزأر متألما ثم أوقع نفسه أرضا و حياة مازالت تركب علية و هو يحرك يديه و أرجله بحركات عشوائية عصبية فصاحت حياة :
ـــ آآآآآدم
قام آدم من رقدته مستغلا رقدة الأسد أرضا و حياة من تحتة، بحث على عصاه بعينه و جدها كسرت نصفين عندما ضربها الأسد بمخلبه .. طرأت لآدم فكرة جديدة من نوعها فأمسك نصف العصا المكسور المسنن و بحركة ماهرة رماة فدخل في صدر الليث و هو يحاول الإفلات من حياة.
همدت حركة الأسد رويدا حتى آخر نفس له ثم سكن تماما .. إقترب آدم من حياة و أجتهدا سويا ليخرجا نصف حياة السفلي من تحت جسد الأسد حتى نجحا و إحتضن حياة بقوة و هي تبكي بغزارة ثم أبعد وجهها عن صدرة و نظر لعينيها التي تملئهم الدموع و يكسوهم اللون الأحمر ثم قال لها و هو مازال يلتقط أنفاسه بقوة:
ــــ ما هذا يا حياة .. هل هذه المياة تخرج من فتحات و جهك في جميع الأشياء؟
ردت عليه حياة و هي تمسح دموعها بكقها:
ــــ لا علم لي و أنت الأول و لا تعلم .. و لكنني أريدها مثلما أريدك.
ــــ أتحبينها؟
ــــ إذا أردت شيئا بشدة فإني أريده مثلما أريدك.
إبتسم آدم إبتسامة عريضه ثم أدخل وجهها في صدرة بحنو ثم أمسك كفها و قاما يسيران نحو البحيرة المتلألأة .. أدخلا قدميهم في أطراف المياة المتحركة.
جلسا آدم و حياة على أطراف البحيرة و هما يحتضنا بعضهما بعد أن قاطع ذلك الأسد لحظة تقابلهم بعد غياب .. تنادي عليهم الطبيعة الوليدة من كل درب حولهم سواء الألوان أو الهواء السماء أو مياة البحيرة و الشجر و الحيوانات التي تتقافز في كل مكان بعد أن أمنت الأسد .. كل ذلك يتناغم و يتشابك في صمت جميل ليوقعهم في شباك الإسترخاء المخملى و هم يضعوا راسهم على بعض جالسين أمام البحيرة .. ثم فجأة .. خرج من مياة البحيرة جسم صغير يتقافز قفزات صغيرة عن أقدامهم .. وقفوا مسرعين ننظرون لذلك الجسم الجديد تحت أقدامهم حتى توقف عن الحركة تماما، جلس آدم القرفصاء ببطء يتفحص هذا الشئ، أمسكه بيده و نظر لحياة قائلا:
ـــ أنه يرسل إلينا الطعام يا حياة.
نظرت حياة للسمكة في يده ثم قالت بإشمئزاز:
ــــ لا يا آدم أنه ليس طعام .. دعنا نأكل من هناك.
و أشارت لشجر الواحة القريب من البحيرة.
وضع آدم يده على بطن حياة و سألها:
ــــ هل تشعرين بالام هنا حياة.
ـــ لا
آدم: حسنا دعيني أأكل تلك ثم وقت آخر نأكل من هناك.
إنقض آدم على على السمكة يأكلها و يلتهمها .. وقفت حياة تنظر إليه متعجبة و الإشمئزاز يتصاعد على سلم نظراتها، ثم قاطعت إندماجة قائلة:
ـــ ألم تضع المياة عليك يا آدم منذ أن هبطنا؟
رفع آدم عينيه إليها و هو يأكل و قال:
ــــ لا .. و لماذا أفعل.
إقتربت منه ببطء و هي تحرك أنفها بحركة معروفة ثم قفزت إمارات القئ على وجهها فرجعت للخلف مصدومة من ما التقططه شباك أنفها من بحور رائحة العرق المتراكم .. ثم ألانت ملامحها بصعوبة و هي تنظر إليه منهمكا في أكل السمكة ثم قالت في هدوء:
ـــ يبدو إنك قد عشت أياما صعاب حتي إلتقيتني؟
خرج آدم من نهم الأكل الذي إستحوذ عليه و قال و هو يتذكر حياته بعد أن هبط :
ــــ لم أسكن قط و قابلت أشياء لا طاقة لي بها.
أمسكت راسه بكفيها الناعمة وتقرب أنفها من أنفه و هي تشير لبحيرة ماء الواحة من خلفهم:
ـــ أتعرف يا آدم إذا نزلنا لهذا الماء ستشعر و تعرف أشياء جديدة سليم معافى من أي شئ.
نظر آدم للماء ثم نظر لحياة و قال:
ـــ و هل نزلت من قبل؟
أمتلأ و جهها حماس و سألته:
ـــ بالطبع، ألم تفعل في و حدتك؟
رد آدم بصوت خافت:
ــــ لا
أمسكت حياة كف آدم في نعومة ثم قبضت عليه و سارت خطوة للأمام و هي تنظر له تشجعه ليخطو معها وضعا قدمهما في أطراف المياة الدافئة و تخطو و يخطو معها حتى أصبح نصفهم السفلي في المياة، و ضعت يدها على كتف آدم و جلسا القرفصاء في المياة حتى رقبتهم، ينظران لبعضعهم يتمتعا بجمال جنة الأرض، يستمتعا بوحدتهم ..هذه الوحدة التي حفرت في أحماضانا النووية حب إمتلاك الآخر و التي زرعت في جذور البشر حب الخلوة بين المحبين.
أنتهى الجزء الأول و الثاني
مع تحيات معتز حجازي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق