الأحد، 18 مارس 2018

ليت عمري





وقفت مشيرة المسنة تنظر من خلف زجاج نافذة غرفة صغيرة بسيطة الأثاث مكونة من أريكة بسيطة و مكتب صغير .. و قفت تنظر من خلال النافذة التي تطل على حديقة دار مسنين، تنظر لتلك المرأة المسنة التي تجلس على أريكة خشبية مستسلمة لمياة الأمطار المهطلة و تغرق كل شبر خارج الغرفة كان هناك أحد العاملات التي تحاول إقناع تلك المسنة بالقيام و الإبتعاد عن الأمطار و الولوج للداخل و لكن يبدو أن المرأة المسنة كانت مصرة على الجلوس في حديقة الدار غير مبالية بتقاطر المطر عليها.

تركتها تلك العاملة بعد أن غرقت بالمياة تماما و ذهبت لمشيرة التي كانت تتابع المشهد من داخل الغرفة .. دلفت لها و قالت:

ـــ عذرا سيدة مشيرة و لكنها مصرة على الجلوس هناك.

أشارت لها بيدها ببساطة ة قالت:

ـــ لا عليكي .. لقد قمت بواجبكِ .. دعيها سأخرج أنا لها.

ـــ في هذه الأجواء الصعبة؟

نظرت لها مشيرة نظرة طويلة وكأنها تسترجع مشاهد ما ثم ردت:

ــــ الأمطار ليست أجواء صعبة إنما هي تُرسَل لنا فقط لتلطف الأجواء الصعبة .. سأذهب الأن لها.

عدلت مشير هندامها و خرجت من الغرفة رافعة رأسها لأعلى تسقبل الأمطار بجبهتها ذاهبة لتلك المسنة التي تجلس على الأريكة في الحديقة .. سارت تتحسس خطاها وسط الطمي الذي أصبح طريا بعد أن أرتوي من مياة الأمطار و مع كل خطوة تسترجع حياتها الأليمة، مشاهد ألم في كل مرحلة من مراحل عمرها لا تنسى عنوستها الطويلة و بعد زمن ما تتزوج ذلك الرجل و تحبة و لكنها لا تقدر على إسعاده لما مر به في حياته من الآم هو الأخر و بعد أمد تعرف إنها فقدت القدرة على الحمل بسبب طول فترة عنوستها و لكن نور الحياة لا يخبو أبدا .. تأتي لتلك المرأة تعيد زيارتها من حين لحين حتى تتعرف على ما فاتها من حياة زوجها قبلها ..حاولت أن تقنعها كثيرا أن تأتي تعيش معها و لكن تلك المرأة دائما ترفض.

أسترجعت مشيرة كل ذلك سريعا حتى و صلت لتلك المرأة، جلست بجوارها على الأريكة بعد أن كستها أمطار .. رأسها و عينيها و ملابسها جميعا .. نظرت مشيرة للمرأة و قالت:

ـــ كيف حالك اليوم يا نشوى؟

نظرت لها نشوى دون أن ترد فقط إبتسمت.

أكملت مشيرة:

ـــ ما رأيك أن ندخل هناك حتي نتجنب هذا المطر.

ــــ أنت تعرفين إنني لن أقوم إلا بعد أن ينتهي المطر .. كنا دائما نفعل ذلك أنا و سمير.

شخصت مشيرة ببصرها للأرض و هي تحدث نفسها:

ـــ نعم أعرف

قاطعت نشوي صمت مشيرة و هي تسألها :

ـــ لماذا لم يأتي الأولاد معكي اليوم؟

بتردد و عدم ثقة ردت مشيرة:

ــــ الأولاد لديهم كثير من الأشغال يا نشوى أنت تعلمين و لكنهم يرسلون إليك السلام بالطبع.

ــــ إنهم دائما مشغولون .. و هل سمير مشغول هو الأخر؟

إتسعت عينا مشيرة للغاية حتى تساقطت قطرات مطر من رموشها داخل سواد عينها و هي تسأل في إندهاش:

ــــ سمير؟

ردت نشوي:

ــــ نعم سمير.. لماذا لم يأت معكي؟

ــــ سمير .. سمير .. سمير لقد توفاه الله يا نشوي من خمس سنين .. أنسيتِ؟

نظرت نشوى لمشيرة طويلا و كأنها تتذكر شيئا ما ثم هزت رأسها في إيجاب و قالت و كأنها تحدث نفسها بصوت خافت:

ــــ نعم نعم .. لقد توفاه الله.

أكملت نشوي بنفس الصوت الخافت:

ـــ أتعلمين لماذا تزوجك سمير يا مشيرة و تركني .. ليس لشئ مميز بكِ و إنما وجد كل شئ يكره في عكسه فيكِ ظنا من أن هذا هو الأجمل و إنما فقط يريد التغيير .. لست محجبة، تصغريني في السن عشر سنوات، تهتمين به للغاية و الذي غلف كل ذلك بغلاف جميل إنك لا تنجبين .. هل هناك أحلى من ذلك .. لماذا لا يتزوجك؟ .. أجيبيني

نظرت مشيرة كثيرا لنشوى حائرة لا تعلم فحوى ما تقوله تلك الأخيرة كرة أم قلة حيلة .. كانت تريد أن تصمت أمام كلامها الجارح لها و لكن كرامتها الأنثوية أبت أن تصمت فقالت بهدوء واثق شديد أقوي من المطر المنهمر:

ـــ نشوي أنت تعلمين جيدا إنك من أضعت حياتك بيدك و أنك من قدت نفسك لهذا المكان الذي تجلسين فيه الآن .. سمير لم يتزوجني فقط لرغبة في التغيير كما تأملين و لكنه عرف القبح و الخسة فيكِ .. فأجرعته أنا الحب و الجمال فلم يقدر على التخلي عني .. أنت تخليت ِعنه في أحلك الظروف و أكتفيت بأولادك أملاً بداخلك إنهم الملاذ و المستقبل و نسيتِ أنهم يتجرعون من خستك مع أبوهم و سيفعلوا معك المثل .. و هو كما تخليت عنه دائما تركك عندما فرجت الظروف الصعبة و حاول أن يصنع مستقبل أفضل معي.

صمتوا هما الأثنين كثيرا بعد هذا النزال الهادئ ثم قالت نشوى:

ـــ ماذا تريدين مني؟

ردت مشيرة و هي تقترب من نشوي:

ــــ أنت تعلمين بعد وفاة سمير إنني أحيا بمفردي لماذا لا تأتي تعيشين معي و تتركِ دار المسنين هذا .. لماذا تصرين على المكوث هنا، أنه مكان مقفر و مقبض للغاية .. أتعاقبين نفسك يا نشوى؟

تنهدت نشوي تنهيدة حارة و قالت:

ــــ يبدو ذلك .. أنني أعاقب نفسي أو مازلت أأمل في أولادي خيرا .. أو أو .. أحب زيارتك لي من وقت لأخر يا مشيرة .. تعلمين؟ أخاف أن أترك الدار و أذهب معكِ فتلقينني كما القاني سمير و أولادي هنا و القيت خارج كل شئ في الحياة .. إنما هنا، مازال شخص واحد يرغب في زيارتي .. أنت يا مشيرة.

أحتضنت مشيرة تلك الأخيرة بقوة و أحست تجاها بتعاطف قوي للغاية لم تتخيل أن تقابل شخصا يصل بتفكيرة لهذا المدي خاصة بعد هذا الإعتراف .. تريد أن تأخذ بأزرها و تخرجها مما فيه لكن ليس بيدها ما تفعلة.

أبعدتها عن حضنها و هم ينظرون لبعض غير قادرين على الكلام فكل منهم لا تعلم أتحبها أم تكرهها .. لا تعلم نشوى هل تعرض مشير عليها هذا العرض أن تذهب لتعيش معها كل زيارة لها لرغبة حقيقية منها أن تؤنس وحدتها أم لتذكرها من وقت لأخر إنها المرأة التي تركها زوجها من أجلها .. لا تعلم مشيرة هل تأتي لزيارة نشوي للإطمئنان عليها فعلا أم لكي ترضي ضميرها بأنها لم تختطف رجل من زوجته فعلا .. لا تعلم و لا تعلم.

قامت مشيرة من على الأريكة الخشبية ، ودعت نشوى و وعدتها إنها ستأتي لزيارتها مرة أخري و ستقنع أولادها أن يأتوا المرة القادمة .. خرجت من حديقة الدار ثم من بوابة الدار، سارت بعيدا عن الدار بثلاث شوارع ثم عبرت الشارع الأخير و أشارت لطفل في سيارة تقف في إنتظارها، وصلت للسيارة فتحت الباب الذي بجانب السائق ثم أغلقت الباب خلفها

ــــ إتأخرت؟

رد الرجل الذي يقود السيارة:

ــــ كيف حالها؟

ـــ كما هي يا سمير ما زالت فاقدة الأمل و لا تريد أن تترك الدار و مصدقة أنك مت منذ خمس سنين

سكت سمير برهة في حزن ثم قال:

ــــ حسنا فعلت .. أتعلمين لقد جعلت شريط حياتي كله ألآم و وحدة يا مشيرة.

في إندهاش سألته مشيرة:

ــــ لماذا تصر دائما على زيارتها بشكل دوري إذا؟!!!

نظر سمير لإبنه الذي يجلس في الخلف و قال:

حتي لا يشرب إبننا من نفس الكوب الذي شرب منه أولادي منها.





تمت



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المعسكر 6 .. الأخيرة

قرب نهاية الليل و قبل بزوغ الشمس بحوالي ساعتين و أكثر .. وقفت الفصيلة على شكل طوابير منتظمة الشكل في أبعد أركان باحة مركز التدريب، متكوم ...