عشر سيارات يسيرون خلف بعض في صف واحد لا تحيد واحدة عن الأخرى، من نظرتك الأولى تُيقن إنهم على علاقة ببعض ذاهبين لنفس الوجهة لأن جميعهم سيارات طويلة من نوع السبعة راكب، أية كانت نوعها بيجو أو مرسيدس .. يسيرون بنفس الرتابة و نفس السرعة .. في هذا الطريق الواحد ذي الاتجاهين، طريق مقفر للغاية و كأن ليس هناك من سار علية في أي من الاتجاهين منذ زمن.
عمرو .. راكب إحدى تلك السيارات، ينظر من السيارة سارحا في الصحراء القاحلة أمامه متذكرا كيف تحطمت أحلامه و أطماحة للنزوح للقاهرة و البحث عن فرصة لحياة مختلفة عن تلك التي عشها بعد أن أصابة الدور في الجيش لمدة سنة كعسكري، و الأدهى من ذلك أن يكون من نصيبه مركز تدريب بعيد للغاية في هذه الصحراء .. علم قبل أن يأتي أن مركز التدريب بعيد و عدد قليل للغاية من يلتحق به و هذا أيضا كان من حظة العثر الذي أضفى علية مزيدا من الكآبة و الحزن.
عمرو .. جسده ممشوق طويل، مفتول العضلات لم يمارس الرياضة بشكل نظامي في حياته قط ، و لكن أبوة كان دائما ما يجبرة على الأعمال المجهدة بدنيا و أيضا هذا بحكم البيئة الريفية المنعدمة الرفاهية التي ترعرع فيها، أسمر البشرة ذو عين واسعة و بالطبع حليق الرأس.
توقفت أول سيارة عند نقطة ما من الطريق غير محددة المعالم و لا توجد لأي لافتات ترشد لأي مكتن محدد، و بالتالي توقفت بقية السيارات من خلفها، ترجل من أول سيارة شخص ضخم البنية مرتديا عوينات للشمس نظر لبقية السيارات التي تخلف سياراته و أشار للركاب أن ينزلوا.
نزل عمرو من السيارة و صعد على عتبتها بخفة ليحضر حقيبته الصغيرة من على سقف السيارة ثم تجمع كل الشباب الصغير عند ذلك الرجل الضخم الذي أشار لهم منذ قليل، و بدأت السيارات التي فرغت من ركابها في الالتفاف و الانصراف عائدين.
ترصص الشباب في في صفين متوازيين تنفيذا لأمر صاحب البنية الضخمة ثم قال لهم و هو يشير بيده ناحية الجبل:
ـــ يا رجالة .. سوف نسير في هذا الاتجاه من خلفي .. 3 كيلو حتى نصل خلف هذا الجبل.
تعالي صوت همهمة بين الشباب على صعوبة أمر سير 3 كيلو على أقدامهم في الصحراء ، و كل سرح بخيالة عن مدى صعوبة الأيام القادمة في الجيش إذا كانت البداية سيرا 3 كيلو على أقدامهم .. بدأ الصول صاحب البنية الضخمة في السير .. التفت لهم قائلا:
ـــ يلا يا .. منك ليه، إتحركوا.
بدؤا السير جميعا في قلب الصحراء محافظين على قوام الصفين الذين صنعوهم في البداية، كان عمرو أتخذ مكانة في آخر الصف ناظرا للأرض و كأنه يحمل همة فوق راسه ملعنا اليوم الذي أتى به إلى هذا المكان ..قاطع أفكارة صوت من بجانبة في الصف الموازي قائلا:
ـــ مالك يا عم في أيه .. أيه اللي مضايقك؟
نظر له عمرو بجانب عينية و لم يرد، فتابع هذا المتحدث:
ـــ أحنا مش رايحين نموت .. هما 45 يوم نقضيهم، و بيقولوا بيعدوا بسرعة.
رد عمرو:
ـــ أنت جيشك 45 يوم بس؟
ـــ لأ .. بس هي سنة ..مدام كده كده هي السنة، فكك من أي حاجة عشان تعدي بسرعة.
أدار عمرو له رأسه لينظر له لأول مرة متنهدا:
ـــ عندك حق .. أسمك أيه؟
مد المتحدث يده ليسلم على عمرو قائلا:
ـــ محمد الطحلاوي و ممكن تقولي طحلاوي على طول لو مستصعب محمد.
دقق عمرو في وجه محمد الطحلاوي مستغربا روحة المرحة .. إ بتسم لمزحته و تبادلا المصافحة و أكملا سيرا في صمت.
بعد ساعة أو أكثر كانوا في أخر المسافة المفترض سيرها، أرهقوا جميعا و أصبح عمرو و الطحلاوي في المقدمة بعد أن كانوا في ذيل الصف، و صلوا لطرف الجبل و بدؤوا الالتفاف حوله حتى ظهر مركز التدريب خلف الجبل .. مبنى كبير في مواجهة الجبل و بوابة ضخمة مع سور عالي و خارج الأسوار 10 غرف مغلقة .
أذهل الشباب من منظر المعسكر في قلب الجبل و ضخامة المبنى الأوحد فيه .. توقفوا عند البوابة .. نظر عمرو أعلى البوابة وجد لافتة كبيرة مزخرف عليها بخط جميل (أعوذ بالله من كل غير إبن آدم) .. أنعقد حاجباه مستغربا هذه الجملة الغير مألوفة.
وقفوا الشباب صفا واحدا بعد ان دخلوا مركز التدريب، أتى لهم الضابط المسئول و وقف ينظر لهم متفحصا كل واحد منهم و هو يمر أمامهم، بعينية خلف عويناته الشمسية ثم توقف قائلا بصوت جهوري:
ـــ أنا أسمي الرائد عادل الدميري ، أتمنى تكونوا شخصيات محترمة .. الصول منصور هيسلمكوا المخلة بتاعت كل واحد، دي تحافظوا عليها أكتر من عينكوا، بعد كده هيجلكوا مجند ناجي الأزهري يسلمكوا حاجات تانية تحافظوا عليها برده .. أنا مكتبي هناك اللي عاوز أي حاجة يجيلي.
ثم أنصرف في خطوات واسعة سريعة .. تسلم المجندين مخاليهم ثم وقف الصول منصور ينادي:
ـــ ناجي يا أزهري.
أتى ناجي الأزهري مهرولا مرتديا مثل بقية المجندين و لكنه كان يزيد عليهم بعمامة .. نعم مجند مصري يضيف عمامة أزهرية كالتي يتميز بها الشيوخ للزي العسكري، أتى و هو يحمل حقيبة على ظهرة و توقف عند أولهم – عمرو – و أخرج شيئا من الحقيبة و أعطاها له أمسكها عمرو يقبلها بين أصابعة يتفحصها ليتعرف على ما سلم له، إنها سلسلة من المعدن و يتدلى منها قطعة معدنية محفور عليها إسم الله (القدير)، نظر للطحلاوي بجانبة فوجده يحمل سلسلة محفور عليها إسم الله (الجبار) .. أصبح يشوب الأمر بعض الريبة و شعاع من الخوف بدأ يتسلل إليه.
أنهى ناجي الأزهري تسليم هذه السلاسل و وقف بجانب الصول الذي قال:
ـــ دلوقتي كل واحد هيروح على عنبرة .. الصول معتمد هيسكنكوا، تغيروا لبسكوا و بعد كده تيجوا على الميز عشان تتسمموا الغدا.
قادهم الصول معتمد لتسكين المجندون الجدد في الدور الرابع من المبني الضخم الوحيد .. كان المبنى يتكون من خمسة طوابق، كل طابق مكون من عشرة عنابر، كل عنبر من إحدى عشر لثلاثة عشر مجند، كان قد سكن الثلاثة طوابق الأولى في الأيام السابقة و لم يتبقى سوى هذه الدفعة لتسكن الدور الرابع، إنما الدور الخامس فيبقى فارغا.
فرغ الجنود الجدد من وضع أحجيتهم كل على فراشه ثم حضروا أول ميز للغداء لهم.. بعد نهاية الميز وقفوا طابور هم و بقية الفصائل التي وصلت قبلهم ،كل فصيلة من 125 جندي.
حضر عادل الديميري واقفا أمامهم ينظر إليهم، واضعا كفية خلف ظهرة قائلا بصوت جهوري عالي:
ـــ كده مركز تدريب المماليك أكتمل إنهاردة .. 500 عسكري مصري .. جايين هنا عشان تبقوا رجالة .. أسمعوا يا رجالة، الجيش يعني أوامر .. أوامر تتنفذ مفهاش نقاش .. مفيش تفكير .. أول كلمة لازم تيجي في زهنك تمام يا فندم.
صمت برهة ليلتقط أنفاسة و أكمل:
ـــ دي تاني سنة للمركز ده .. قبل كده كان مقفول .. أشتغل سنتين أو ثلاثة في أخر التسعينات و بعد كده قفل و محدش يعرف قفل ليه لغاية السنة اللي فاتت لما رجعنا شغلناة تاني، قبل ما يشتغل في أخر التسعينات محدش كان يعرف أصلا المكان ده و لا أي سيرة تماما عن المبنى ده .. المبني قديم و مكانه مختفي لدرجة إن مفيش حد كان يعرف تاريخة أيه و لا مين اللي بناة .. لكن الخبراء بيقولوا أنه ممكن يكون يرجع تاريخة للماليك و عشان كده سميناة مركز تدريب المماليك و إن المبنى ده بينطبق عليها مواصفات مبنى قديم في تاريخ المماليك محدش كان لاقية لمارستان أسمه موج .. مارستان موج .. مارستان يعني مستشفى للميعرفش .. الخبراء بيقولوا أن مارستان موج ده كان مستشفي للمجانين في زمنهم أو أي حالة معرفولهاش تفسير و قتهم كان بيروح المكان ده و كان مقصود إن المكان ميكونش معروف مكانه .. القصة اللي بحكهلكوا دي ممكن جدا متكونش هي قصة المبنى اللي وراكوا ده لكن الخبراء بيرجوحها مش أكتر .
توقف عن التحرك ذهابا و إيابا و وقف ينظر للمجندين متابعا:
ــــ أنا بقولكوا القصة دي عشان تعرفوا حساسية المكان اللي أنتوا فيه .. هنا مفيش لعب عيال .. لو حد فيكوا مدلع و عايز يروح لأمة و حب يهرب هنسيبة للصحراء لأن محدش بيعرف الطريق غيرنا .. كلنا هنا ملتزمين بلأوامر و قواعد مركز التدريب و إرشادات ناجي الأزهري.
سكت دقيقة ينظر لهم و كأنه ينتظر رد ما منهم ثم قال:
ـــ يلا عشان نصلي المغرب جماعة.
تركهم الضابط عادل و سار في إتجاة المسجد تاركا خلفة أجولة من الخوف و علامات من الاستفهام التي تملأ أنفس مركز التدريب كلة، و بالذات عمرو الذي نظر للطحلاوي سائلا:
ـــ هو الراجل ده عايز أيه، يخوفنا و لا عايز يضمن إننا ننفذ الأوامر ؟
رد الطحلاوي:
ـــ هو مش محتاج يألف أي حاجة عشان ننفذ الأوامر .. إحنا في الجيش يعني في 100 حل يضمن بيه أننا ننفذ الأوامر.
ــــ انا مش مصدق القصة اللي حكاها دي.
ـــ أنا مصدقها لأن المبنى من جوة شكله غريب و مليان زخرفة في كل حتة.
عمرو معقود الحاجبين:
ــــ زخرفة أيه؟ مفيش زخرفة.
أشار الطحلاوي لحائط المبنى و هم يقتربون منه لصلاة المغرب جماعة كما أمروا، فإتسعت عينا عمرو فما رآه على الحائط كان أبلغ من أي كلمات قالها صديقة منذ قليل.
يتبع بالجزء الثاني
مع تحيات معتز حجازي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق