الأربعاء، 28 مارس 2018

المعسكر 2




تركهم الضابط عادل و سار في إتجاة المسجد تاركا خلفة أجولة من الخوف و علامات من الاستفهام التي تملأ أنفس مركز التدريب كلة، و بالذات عمرو الذي نظر للطحلاوي سائلا:

ـــ هو الراجل ده عايز أيه، يخوفنا و لا عايز يضمن إننا ننفذ الأوامر ؟

رد الطحلاوي:

ـــ هو مش محتاج يألف أي حاجة عشان ننفذ الأوامر .. إحنا في الجيش يعني في 100 حل يضمن بيه أننا ننفذ الأوامر.

ــــ انا مش مصدق القصة اللي حكاها دي.

ـــ أنا مصدقها لأن المبنى من جوة شكله غريب و مليان زخرفة في كل حتة.

عمرو معقود الحاجبين:

ــــ زخرفة أيه؟ مفيش زخرفة.

أشار الطحلاوي لحائط المبنى و هم يقتربون منه لصلاة المغرب جماعة كما أمروا:

ــ بص كويس، الزخارف مدهون عليها.

توقف عمرو عن السير و هو ينظر لحوائط المبنى، فوجد أنها مزخرفة بالفعل و مغطاة بالدهان .. فنظر للطحلاوي قائلا:

ـــ صح .. عندك حق .. عارف مين هيبقى عارف كل حاجة، أكيد ناجي الأزهري ده.

و صلا للساحة المقابلة للمسجد و التي يقف فيها جميع المجندين منتظرين حتى وجد عمرو ناجي الأزهري جالس أرضا و حيدا ممسكا سبحة و يسبح بصوت خافت فذهب إليه و ألقى علية التحية ثم جلس بجوارة قائلا:

ـــ إزيك يا شيخ؟

نظر ناجي الأزهري لرقبة عمرو ثم سألة مباشرة:

ـــ فين السلسلة يا عمرو اللي سلمتهالك؟

رد عمرو في إندهاش بالغ:

ـــ عرفت إسمي إزاي .

ـــ أنا عارف أساميكو كلكوا يا عمرو.

صمت عمرو مدهوشا بدون تكلم و لكن ناجي قاطع صمته:

ـــ مقولتليش فين السلسلة؟!!

ـــ مبحبش ألبس حاجة في رقبتي.

نظر إليه في استخفاف و نظر أمامه ليكمل تسبيحة، ثم فجأة قام ناجي من مكانه و هو يطرق بقدمة على الأرض و يرفع كفة بالتحية للضابط عادل الذي خرج توا من المسجد و معه مجموعة من المجندين الذين كانوا يصلون معه.

جلس ناجي مرة ثانية فسألة عمرو:

ـــ هو أنت مصلتش المغرب يا شيخ؟!!!

لم ينظر لعمرو قائلا:

ـــ أنا بصلي في الجماعة السابعة.

ـــ هو انتو بتعملوا سبع جماعات؟

ـــ أيوا الباشا عادل بيإم أول جماعة و أنا بيإم آخر جماعة.

ـــ بس ده كتير أوي .. طب ما ممكن تصلوا برا هنا جماعة واحدة و خلاص.

أدخل ناجي الأزهري السبحة في جيب سرواله و التفت لعمرو قائلا بنفاذ صبر:

ـــ شكلك بتاع مشاكل و هتتعبنا، هو انت مسعمتش الباشا و هو بيقول التعليمات تتنفذ و إرشاداتي تتعمل؟

ـــ و هي إرشاداتك تخلي الناس تفضل تصلي سبع جماعات؟!!!

ــــ أه

ــــ ليه

لم يرد الأزهري عليه و قام من مكانه ينادي على كل من إبراهيم و خالد ليدخلوا يصلوا معه الجماعة السابعة، تاركا عمرو في تجاهل تام.

وقف عمرو بين حيرته و أسئلته التي تزداد و تتوالد كل دقيقة، لماذا نادي ناجي الأزهري لإبراهيم و خالد يدخلوا المسجد وقت صلاة المغرب بالرغم من إنهم مَسيحين .. و لماذا لا يصلون بالخارج في مكان أوسع و جماعة واحدة للكل .. لماذا هذه الغرفة الضيقة لكي يصلوا فيها .. المكان فعلا غريب.

تكرر هذا الفعل مع صلاة العشاء بنفس الروتين و الطريقة و الترتيب و لم يصل عمرو معهم أيضا .. بعد انقضاء الجماعة السابعة لصلاة العشاء ذهب عمرو لناجي يسأله:

ـ لماذا تصلون في تلك الغرفة الضيقة؟

رد علية ناجي و هو متابعا السير:

ـ لابد أن تظل هذه الغرفة بالذات مليانة بالمصلين بإستمرار يا عمرو.

ـــ لماذا؟!!!

وقف ناجي من سيرة لينظر لعمرو قائلا:

ــ لقد كانت تلك الغرفة الصغيرة هي غرفة الإعدام الخاصة بالمبنى ، النظريات بتقول إن أصحاب المبنى كانوا عندما يواجهوا أي حالة مستعصية و تصبح خطر على من حولهم و ليس لها علاج معروف ذلك الوقت كان يعدموه بقطع رقبته .. ارتحت ؟ .. روح يالا عنبرك عشان تنام.

ذهب عمرو لعنبرة و هو يفكر فيما حدث من أول اليوم و كل تلك علامات التعجب و الاستفهام تحيط بكل الأشخاص و الأفعال، خطر ببالة أن يهرب من المكان و لكن هذا غير قابل للتنفيذ تماما وسط هذه الصحراء مجهولة المعالم.

دخل عنبرة و أستلقى على سريرة، مازال مفكرا معيدا للأحداث محاولا فهم المكان و التعليمات الغريبة و لكن ..

شعر عمرو و هو مستلقيا ان ثم هواء دافئ يحتك بقفاه و هو نائم على جانبة، ظن إنها من الممكن أن تكون ذبابة أو تيار هواء خفبف، سرح في تفكيره مرة أخرى و لكن ذلك الهواء الدافئ المحتك بقفاه يشعر به بشكل دوري منتظم و كأن أحد ما يتنفس بانتظام، فزع من مكانه ليجلس على السرير و ينظر حوله متفحصا المكان لم يجد شيئا غريبا، جميع زملائه نائمين في سبات عميق .. بطرف عينه لمح شيئا مارا بالخارج تعرف ما رآه و لكن ليس في ذلك المكان لأنه رأى طفل بخارج العنبر يركض مارا من أمام العنبر .. نزل من على سريرة ليتأكد من ما رأته عيناه .. خرج من العنبر لينظر للممر خارج الغرف و جد أحد ما يرتدي جلباب يركض يبحث عن مكان ما، ركض عمرو وراءه ليلحق به و لكن لم يقدر فتوقف يلتقط أنفاسة، حتى سمع بعض الجلبة و الأصوات تأتي من خلفة ألتفت خلفة و لكنه وجد شيئا لا يمكن أن يخطر على خيال بشر. 


يتبع بالجزء الثالث 
مع تحيات معنز حجازي   




المعسكر 1




عشر سيارات يسيرون خلف بعض في صف واحد لا تحيد واحدة عن الأخرى، من نظرتك الأولى تُيقن إنهم على علاقة ببعض ذاهبين لنفس الوجهة لأن جميعهم سيارات طويلة من نوع السبعة راكب، أية كانت نوعها بيجو أو مرسيدس .. يسيرون بنفس الرتابة و نفس السرعة .. في هذا الطريق الواحد ذي الاتجاهين، طريق مقفر للغاية و كأن ليس هناك من سار علية في أي من الاتجاهين منذ زمن.

عمرو .. راكب إحدى تلك السيارات، ينظر من السيارة سارحا في الصحراء القاحلة أمامه متذكرا كيف تحطمت أحلامه و أطماحة للنزوح للقاهرة و البحث عن فرصة لحياة مختلفة عن تلك التي عشها بعد أن أصابة الدور في الجيش لمدة سنة كعسكري، و الأدهى من ذلك أن يكون من نصيبه مركز تدريب بعيد للغاية في هذه الصحراء .. علم قبل أن يأتي أن مركز التدريب بعيد و عدد قليل للغاية من يلتحق به و هذا أيضا كان من حظة العثر الذي أضفى علية مزيدا من الكآبة و الحزن.

عمرو .. جسده ممشوق طويل، مفتول العضلات لم يمارس الرياضة بشكل نظامي في حياته قط ، و لكن أبوة كان دائما ما يجبرة على الأعمال المجهدة بدنيا و أيضا هذا بحكم البيئة الريفية المنعدمة الرفاهية التي ترعرع فيها، أسمر البشرة ذو عين واسعة و بالطبع حليق الرأس.

توقفت أول سيارة عند نقطة ما من الطريق غير محددة المعالم و لا توجد لأي لافتات ترشد لأي مكتن محدد، و بالتالي توقفت بقية السيارات من خلفها، ترجل من أول سيارة شخص ضخم البنية مرتديا عوينات للشمس نظر لبقية السيارات التي تخلف سياراته و أشار للركاب أن ينزلوا.

نزل عمرو من السيارة و صعد على عتبتها بخفة ليحضر حقيبته الصغيرة من على سقف السيارة ثم تجمع كل الشباب الصغير عند ذلك الرجل الضخم الذي أشار لهم منذ قليل، و بدأت السيارات التي فرغت من ركابها في الالتفاف و الانصراف عائدين.

ترصص الشباب في في صفين متوازيين تنفيذا لأمر صاحب البنية الضخمة ثم قال لهم و هو يشير بيده ناحية الجبل:

ـــ يا رجالة .. سوف نسير في هذا الاتجاه من خلفي .. 3 كيلو حتى نصل خلف هذا الجبل.

تعالي صوت همهمة بين الشباب على صعوبة أمر سير 3 كيلو على أقدامهم في الصحراء ، و كل سرح بخيالة عن مدى صعوبة الأيام القادمة في الجيش إذا كانت البداية سيرا 3 كيلو على أقدامهم .. بدأ الصول صاحب البنية الضخمة في السير .. التفت لهم قائلا:

ـــ يلا يا .. منك ليه، إتحركوا.

بدؤا السير جميعا في قلب الصحراء محافظين على قوام الصفين الذين صنعوهم في البداية، كان عمرو أتخذ مكانة في آخر الصف ناظرا للأرض و كأنه يحمل همة فوق راسه ملعنا اليوم الذي أتى به إلى هذا المكان ..قاطع أفكارة صوت من بجانبة في الصف الموازي قائلا:

ـــ مالك يا عم في أيه .. أيه اللي مضايقك؟

نظر له عمرو بجانب عينية و لم يرد، فتابع هذا المتحدث:

ـــ أحنا مش رايحين نموت .. هما 45 يوم نقضيهم، و بيقولوا بيعدوا بسرعة.

رد عمرو:

ـــ أنت جيشك 45 يوم بس؟

ـــ لأ .. بس هي سنة ..مدام كده كده هي السنة، فكك من أي حاجة عشان تعدي بسرعة.

أدار عمرو له رأسه لينظر له لأول مرة متنهدا:

ـــ عندك حق .. أسمك أيه؟

مد المتحدث يده ليسلم على عمرو قائلا:

ـــ محمد الطحلاوي و ممكن تقولي طحلاوي على طول لو مستصعب محمد.

دقق عمرو في وجه محمد الطحلاوي مستغربا روحة المرحة .. إ بتسم لمزحته و تبادلا المصافحة و أكملا سيرا في صمت.

بعد ساعة أو أكثر كانوا في أخر المسافة المفترض سيرها، أرهقوا جميعا و أصبح عمرو و الطحلاوي في المقدمة بعد أن كانوا في ذيل الصف، و صلوا لطرف الجبل و بدؤوا الالتفاف حوله حتى ظهر مركز التدريب خلف الجبل .. مبنى كبير في مواجهة الجبل و بوابة ضخمة مع سور عالي و خارج الأسوار 10 غرف مغلقة .

أذهل الشباب من منظر المعسكر في قلب الجبل و ضخامة المبنى الأوحد فيه .. توقفوا عند البوابة .. نظر عمرو أعلى البوابة وجد لافتة كبيرة مزخرف عليها بخط جميل (أعوذ بالله من كل غير إبن آدم) .. أنعقد حاجباه مستغربا هذه الجملة الغير مألوفة.

وقفوا الشباب صفا واحدا بعد ان دخلوا مركز التدريب، أتى لهم الضابط المسئول و وقف ينظر لهم متفحصا كل واحد منهم و هو يمر أمامهم، بعينية خلف عويناته الشمسية ثم توقف قائلا بصوت جهوري:

ـــ أنا أسمي الرائد عادل الدميري ، أتمنى تكونوا شخصيات محترمة .. الصول منصور هيسلمكوا المخلة بتاعت كل واحد، دي تحافظوا عليها أكتر من عينكوا، بعد كده هيجلكوا مجند ناجي الأزهري يسلمكوا حاجات تانية تحافظوا عليها برده .. أنا مكتبي هناك اللي عاوز أي حاجة يجيلي.

ثم أنصرف في خطوات واسعة سريعة .. تسلم المجندين مخاليهم ثم وقف الصول منصور ينادي:

ـــ ناجي يا أزهري.

أتى ناجي الأزهري مهرولا مرتديا مثل بقية المجندين و لكنه كان يزيد عليهم بعمامة .. نعم مجند مصري يضيف عمامة أزهرية كالتي يتميز بها الشيوخ للزي العسكري، أتى و هو يحمل حقيبة على ظهرة و توقف عند أولهم – عمرو – و أخرج شيئا من الحقيبة و أعطاها له أمسكها عمرو يقبلها بين أصابعة يتفحصها ليتعرف على ما سلم له، إنها سلسلة من المعدن و يتدلى منها قطعة معدنية محفور عليها إسم الله (القدير)، نظر للطحلاوي بجانبة فوجده يحمل سلسلة محفور عليها إسم الله (الجبار) .. أصبح يشوب الأمر بعض الريبة و شعاع من الخوف بدأ يتسلل إليه.

أنهى ناجي الأزهري تسليم هذه السلاسل و وقف بجانب الصول الذي قال:

ـــ دلوقتي كل واحد هيروح على عنبرة .. الصول معتمد هيسكنكوا، تغيروا لبسكوا و بعد كده تيجوا على الميز عشان تتسمموا الغدا.

قادهم الصول معتمد لتسكين المجندون الجدد في الدور الرابع من المبني الضخم الوحيد .. كان المبنى يتكون من خمسة طوابق، كل طابق مكون من عشرة عنابر، كل عنبر من إحدى عشر لثلاثة عشر مجند، كان قد سكن الثلاثة طوابق الأولى في الأيام السابقة و لم يتبقى سوى هذه الدفعة لتسكن الدور الرابع، إنما الدور الخامس فيبقى فارغا.

فرغ الجنود الجدد من وضع أحجيتهم كل على فراشه ثم حضروا أول ميز للغداء لهم.. بعد نهاية الميز وقفوا طابور هم و بقية الفصائل التي وصلت قبلهم ،كل فصيلة من 125 جندي.

حضر عادل الديميري واقفا أمامهم ينظر إليهم، واضعا كفية خلف ظهرة قائلا بصوت جهوري عالي:

ـــ كده مركز تدريب المماليك أكتمل إنهاردة .. 500 عسكري مصري .. جايين هنا عشان تبقوا رجالة .. أسمعوا يا رجالة، الجيش يعني أوامر .. أوامر تتنفذ مفهاش نقاش .. مفيش تفكير .. أول كلمة لازم تيجي في زهنك تمام يا فندم.

صمت برهة ليلتقط أنفاسة و أكمل:

ـــ دي تاني سنة للمركز ده .. قبل كده كان مقفول .. أشتغل سنتين أو ثلاثة في أخر التسعينات و بعد كده قفل و محدش يعرف قفل ليه لغاية السنة اللي فاتت لما رجعنا شغلناة تاني، قبل ما يشتغل في أخر التسعينات محدش كان يعرف أصلا المكان ده و لا أي سيرة تماما عن المبنى ده .. المبني قديم و مكانه مختفي لدرجة إن مفيش حد كان يعرف تاريخة أيه و لا مين اللي بناة .. لكن الخبراء بيقولوا أنه ممكن يكون يرجع تاريخة للماليك و عشان كده سميناة مركز تدريب المماليك و إن المبنى ده بينطبق عليها مواصفات مبنى قديم في تاريخ المماليك محدش كان لاقية لمارستان أسمه موج .. مارستان موج .. مارستان يعني مستشفى للميعرفش .. الخبراء بيقولوا أن مارستان موج ده كان مستشفي للمجانين في زمنهم أو أي حالة معرفولهاش تفسير و قتهم كان بيروح المكان ده و كان مقصود إن المكان ميكونش معروف مكانه .. القصة اللي بحكهلكوا دي ممكن جدا متكونش هي قصة المبنى اللي وراكوا ده لكن الخبراء بيرجوحها مش أكتر .

توقف عن التحرك ذهابا و إيابا و وقف ينظر للمجندين متابعا:

ــــ أنا بقولكوا القصة دي عشان تعرفوا حساسية المكان اللي أنتوا فيه .. هنا مفيش لعب عيال .. لو حد فيكوا مدلع و عايز يروح لأمة و حب يهرب هنسيبة للصحراء لأن محدش بيعرف الطريق غيرنا .. كلنا هنا ملتزمين بلأوامر و قواعد مركز التدريب و إرشادات ناجي الأزهري.

سكت دقيقة ينظر لهم و كأنه ينتظر رد ما منهم ثم قال:

ـــ يلا عشان نصلي المغرب جماعة.

تركهم الضابط عادل و سار في إتجاة المسجد تاركا خلفة أجولة من الخوف و علامات من الاستفهام التي تملأ أنفس مركز التدريب كلة، و بالذات عمرو الذي نظر للطحلاوي سائلا:

ـــ هو الراجل ده عايز أيه، يخوفنا و لا عايز يضمن إننا ننفذ الأوامر ؟

رد الطحلاوي:

ـــ هو مش محتاج يألف أي حاجة عشان ننفذ الأوامر .. إحنا في الجيش يعني في 100 حل يضمن بيه أننا ننفذ الأوامر.

ــــ انا مش مصدق القصة اللي حكاها دي.

ـــ أنا مصدقها لأن المبنى من جوة شكله غريب و مليان زخرفة في كل حتة.

عمرو معقود الحاجبين:

ــــ زخرفة أيه؟ مفيش زخرفة.

أشار الطحلاوي لحائط المبنى و هم يقتربون منه لصلاة المغرب جماعة كما أمروا، فإتسعت عينا عمرو فما رآه على الحائط كان أبلغ من أي كلمات قالها صديقة منذ قليل.



يتبع بالجزء الثاني
مع تحيات معتز حجازي

الأحد، 18 مارس 2018

ليت عمري





وقفت مشيرة المسنة تنظر من خلف زجاج نافذة غرفة صغيرة بسيطة الأثاث مكونة من أريكة بسيطة و مكتب صغير .. و قفت تنظر من خلال النافذة التي تطل على حديقة دار مسنين، تنظر لتلك المرأة المسنة التي تجلس على أريكة خشبية مستسلمة لمياة الأمطار المهطلة و تغرق كل شبر خارج الغرفة كان هناك أحد العاملات التي تحاول إقناع تلك المسنة بالقيام و الإبتعاد عن الأمطار و الولوج للداخل و لكن يبدو أن المرأة المسنة كانت مصرة على الجلوس في حديقة الدار غير مبالية بتقاطر المطر عليها.

تركتها تلك العاملة بعد أن غرقت بالمياة تماما و ذهبت لمشيرة التي كانت تتابع المشهد من داخل الغرفة .. دلفت لها و قالت:

ـــ عذرا سيدة مشيرة و لكنها مصرة على الجلوس هناك.

أشارت لها بيدها ببساطة ة قالت:

ـــ لا عليكي .. لقد قمت بواجبكِ .. دعيها سأخرج أنا لها.

ـــ في هذه الأجواء الصعبة؟

نظرت لها مشيرة نظرة طويلة وكأنها تسترجع مشاهد ما ثم ردت:

ــــ الأمطار ليست أجواء صعبة إنما هي تُرسَل لنا فقط لتلطف الأجواء الصعبة .. سأذهب الأن لها.

عدلت مشير هندامها و خرجت من الغرفة رافعة رأسها لأعلى تسقبل الأمطار بجبهتها ذاهبة لتلك المسنة التي تجلس على الأريكة في الحديقة .. سارت تتحسس خطاها وسط الطمي الذي أصبح طريا بعد أن أرتوي من مياة الأمطار و مع كل خطوة تسترجع حياتها الأليمة، مشاهد ألم في كل مرحلة من مراحل عمرها لا تنسى عنوستها الطويلة و بعد زمن ما تتزوج ذلك الرجل و تحبة و لكنها لا تقدر على إسعاده لما مر به في حياته من الآم هو الأخر و بعد أمد تعرف إنها فقدت القدرة على الحمل بسبب طول فترة عنوستها و لكن نور الحياة لا يخبو أبدا .. تأتي لتلك المرأة تعيد زيارتها من حين لحين حتى تتعرف على ما فاتها من حياة زوجها قبلها ..حاولت أن تقنعها كثيرا أن تأتي تعيش معها و لكن تلك المرأة دائما ترفض.

أسترجعت مشيرة كل ذلك سريعا حتى و صلت لتلك المرأة، جلست بجوارها على الأريكة بعد أن كستها أمطار .. رأسها و عينيها و ملابسها جميعا .. نظرت مشيرة للمرأة و قالت:

ـــ كيف حالك اليوم يا نشوى؟

نظرت لها نشوى دون أن ترد فقط إبتسمت.

أكملت مشيرة:

ـــ ما رأيك أن ندخل هناك حتي نتجنب هذا المطر.

ــــ أنت تعرفين إنني لن أقوم إلا بعد أن ينتهي المطر .. كنا دائما نفعل ذلك أنا و سمير.

شخصت مشيرة ببصرها للأرض و هي تحدث نفسها:

ـــ نعم أعرف

قاطعت نشوي صمت مشيرة و هي تسألها :

ـــ لماذا لم يأتي الأولاد معكي اليوم؟

بتردد و عدم ثقة ردت مشيرة:

ــــ الأولاد لديهم كثير من الأشغال يا نشوى أنت تعلمين و لكنهم يرسلون إليك السلام بالطبع.

ــــ إنهم دائما مشغولون .. و هل سمير مشغول هو الأخر؟

إتسعت عينا مشيرة للغاية حتى تساقطت قطرات مطر من رموشها داخل سواد عينها و هي تسأل في إندهاش:

ــــ سمير؟

ردت نشوي:

ــــ نعم سمير.. لماذا لم يأت معكي؟

ــــ سمير .. سمير .. سمير لقد توفاه الله يا نشوي من خمس سنين .. أنسيتِ؟

نظرت نشوى لمشيرة طويلا و كأنها تتذكر شيئا ما ثم هزت رأسها في إيجاب و قالت و كأنها تحدث نفسها بصوت خافت:

ــــ نعم نعم .. لقد توفاه الله.

أكملت نشوي بنفس الصوت الخافت:

ـــ أتعلمين لماذا تزوجك سمير يا مشيرة و تركني .. ليس لشئ مميز بكِ و إنما وجد كل شئ يكره في عكسه فيكِ ظنا من أن هذا هو الأجمل و إنما فقط يريد التغيير .. لست محجبة، تصغريني في السن عشر سنوات، تهتمين به للغاية و الذي غلف كل ذلك بغلاف جميل إنك لا تنجبين .. هل هناك أحلى من ذلك .. لماذا لا يتزوجك؟ .. أجيبيني

نظرت مشيرة كثيرا لنشوى حائرة لا تعلم فحوى ما تقوله تلك الأخيرة كرة أم قلة حيلة .. كانت تريد أن تصمت أمام كلامها الجارح لها و لكن كرامتها الأنثوية أبت أن تصمت فقالت بهدوء واثق شديد أقوي من المطر المنهمر:

ـــ نشوي أنت تعلمين جيدا إنك من أضعت حياتك بيدك و أنك من قدت نفسك لهذا المكان الذي تجلسين فيه الآن .. سمير لم يتزوجني فقط لرغبة في التغيير كما تأملين و لكنه عرف القبح و الخسة فيكِ .. فأجرعته أنا الحب و الجمال فلم يقدر على التخلي عني .. أنت تخليت ِعنه في أحلك الظروف و أكتفيت بأولادك أملاً بداخلك إنهم الملاذ و المستقبل و نسيتِ أنهم يتجرعون من خستك مع أبوهم و سيفعلوا معك المثل .. و هو كما تخليت عنه دائما تركك عندما فرجت الظروف الصعبة و حاول أن يصنع مستقبل أفضل معي.

صمتوا هما الأثنين كثيرا بعد هذا النزال الهادئ ثم قالت نشوى:

ـــ ماذا تريدين مني؟

ردت مشيرة و هي تقترب من نشوي:

ــــ أنت تعلمين بعد وفاة سمير إنني أحيا بمفردي لماذا لا تأتي تعيشين معي و تتركِ دار المسنين هذا .. لماذا تصرين على المكوث هنا، أنه مكان مقفر و مقبض للغاية .. أتعاقبين نفسك يا نشوى؟

تنهدت نشوي تنهيدة حارة و قالت:

ــــ يبدو ذلك .. أنني أعاقب نفسي أو مازلت أأمل في أولادي خيرا .. أو أو .. أحب زيارتك لي من وقت لأخر يا مشيرة .. تعلمين؟ أخاف أن أترك الدار و أذهب معكِ فتلقينني كما القاني سمير و أولادي هنا و القيت خارج كل شئ في الحياة .. إنما هنا، مازال شخص واحد يرغب في زيارتي .. أنت يا مشيرة.

أحتضنت مشيرة تلك الأخيرة بقوة و أحست تجاها بتعاطف قوي للغاية لم تتخيل أن تقابل شخصا يصل بتفكيرة لهذا المدي خاصة بعد هذا الإعتراف .. تريد أن تأخذ بأزرها و تخرجها مما فيه لكن ليس بيدها ما تفعلة.

أبعدتها عن حضنها و هم ينظرون لبعض غير قادرين على الكلام فكل منهم لا تعلم أتحبها أم تكرهها .. لا تعلم نشوى هل تعرض مشير عليها هذا العرض أن تذهب لتعيش معها كل زيارة لها لرغبة حقيقية منها أن تؤنس وحدتها أم لتذكرها من وقت لأخر إنها المرأة التي تركها زوجها من أجلها .. لا تعلم مشيرة هل تأتي لزيارة نشوي للإطمئنان عليها فعلا أم لكي ترضي ضميرها بأنها لم تختطف رجل من زوجته فعلا .. لا تعلم و لا تعلم.

قامت مشيرة من على الأريكة الخشبية ، ودعت نشوى و وعدتها إنها ستأتي لزيارتها مرة أخري و ستقنع أولادها أن يأتوا المرة القادمة .. خرجت من حديقة الدار ثم من بوابة الدار، سارت بعيدا عن الدار بثلاث شوارع ثم عبرت الشارع الأخير و أشارت لطفل في سيارة تقف في إنتظارها، وصلت للسيارة فتحت الباب الذي بجانب السائق ثم أغلقت الباب خلفها

ــــ إتأخرت؟

رد الرجل الذي يقود السيارة:

ــــ كيف حالها؟

ـــ كما هي يا سمير ما زالت فاقدة الأمل و لا تريد أن تترك الدار و مصدقة أنك مت منذ خمس سنين

سكت سمير برهة في حزن ثم قال:

ــــ حسنا فعلت .. أتعلمين لقد جعلت شريط حياتي كله ألآم و وحدة يا مشيرة.

في إندهاش سألته مشيرة:

ــــ لماذا تصر دائما على زيارتها بشكل دوري إذا؟!!!

نظر سمير لإبنه الذي يجلس في الخلف و قال:

حتي لا يشرب إبننا من نفس الكوب الذي شرب منه أولادي منها.





تمت



المعسكر 6 .. الأخيرة

قرب نهاية الليل و قبل بزوغ الشمس بحوالي ساعتين و أكثر .. وقفت الفصيلة على شكل طوابير منتظمة الشكل في أبعد أركان باحة مركز التدريب، متكوم ...