في زهراء المعادي.
في أطرافها.
عند بداية
الصحراء.
بناية قديمة وسط
هذا العمران الجديد المستشري من حولها.
ورجل عجوز في
حوالي الخمسينيات من العمر يجلس تحتها، يجلس علي هذا المصطبة الخشبية واضعاً يديه
على هذه العصا – الذي يسميها النبوت - الخشبية ناظرا أمامه، يبدو كالتمثال، لا زمن
يشيخه و لا مكان ينقل إليه بصره، فقط ناظرا أمامه في الفراغ المستمر و يستمتع
بالصمت الدائم.
من آخر الشارع
لاحت سيارة ، قادمة في تأن و حرص تعرف من النظرة الأولى أن صاحبها يبحث عن شئ ما
حوله في البنايات المحيطة، يضع سيارته أمام بناية من البنايات، يترجل من سيارته و
يتكلم مع حارسها، يسئله عن شىء ما ثم يتركه ذاهبا للبناية المجاورة، ليعيد الكرة في بناية تلو الأخرى.
إلى أن وصل إلي آخر بناية في الشارع عند هذا
الرجل العجوز الصامت و وقف أمامه ثم قال:
- سلاموا عليكو.
ظل العجوز واضعا
ذقنه على يديه على رأس النبوت، نظر بعينيه إلي القادم، فوجد شاب في مقتبل العمر و
اقفا أمامه حليق الوجه يرتدي قميص و سروال من الجينز و حذاء بني ضخم، فرد عليه
بهدوء ممل و بلهجة صعيدية واضحة:
- و عليكم السلام
و رحمة الله و بركاته.
سأله الشاب بصوت
واثق:
- لو سمحت أنا
بدور علي شقة للإيجار في المنطقة هنا، عندك في العمارة هنا حاجة فاضية للإيجار.
رد عليه العجوز في
إقتضاب واضح دون أن ينظر للشاب:
- كام شهر؟
- كام شهر أيه
ياحج ... هو أنا جي زيارة ، بقولك إيجار يعني مش اقل من سنة.
- يبجى معندناش.
نظر إليه الشاب في
إندهاش منفعل و قال:
- طب يا
حج كام شهر و تأجر؟، عشان أنا بلف من الصبح و مستعجل.
بدأ يقوم من على
المصطبة الخشبية بنفس البطء المتناسق مع رتم كلامه و رد:
– طب مدام أنت مستعجل عايز تأجر سنة ليه، ما
كفاية 6 شهور وده أكتر حاجة عندينا ممكن أأجرهالك، و يكون في معلومك دي مفروشه.
تسلل الملل إلى
الشاب حتى ظهر على ملامحة و هو يرد:
- أه يا حج ما أنا بدور على مفروش أصلاً.
أدار العجوز ظهره
للشاب و سار في إتجاه مدخل البناية بنفس البطء و قال:
- أسم الكريم أيه؟.
- (أحمد) يا حاج.
– طيب أجعد أستريح على ما أجيب العجود من جوة.
– عجود أيه يا حج مش لما أقعد مع صاحب الشقة الأول، و
نتكلم في المده و السعر.
وقف العجوز الغريب
مكانة دون أن يلتفت وأسند ذراعه للحائط و كأنه يلتقط أنفاسه، قائلاً لأحمد:
- أنا صاحب العمارة.
ثم تحرك لداخل البناية
ليأتي بعقود الإيجار تاركا (أحمد) في حيرة كبيرة، مستغرقا في أفكارة، عجوز غريب
الأطوار، كيف يكون صاحب العمارة و جالس على باب بوابتها كحراس العمائر حتى هيئته
البالية لا تدل على ملكة لأي شىء، يخشى يكون نصابا أو شرك لأي شىء غير محسوب
حسابه، بدأ يفكر أن يهرب من هذا المكان و يبحث عن شقة في مكان آخر من هذه المنطقة
ولكنه قرر أن ينتظر هذا العجوز ليري أي شىء آخر ينفره من هذا المكان.
خرج العجوز من
بوابة البناية في خطوات بطيئة يحمل في يمينة منضدة صغيرة و في يساره يحمل عقد
مطبوع مسبقا، جلس على المصطبة الخشبية، واضها المنضده أمامه ، وضع عيها العقد،
أخرج قلم جاف من داخل جلبابه و ناداه:
- تعال يا أستاذ أحمد، إتفضل أجعد، أنت لساتك واجف ليه.
تقدم أحمد في
خطوات مترقبة تشوبها بعض القلق و الخوف المبهم، نظر حوله إلي أعلى يمينا و يسارا،
ثم جلس بجوار العجوز و سأله:
- إسمك أيه يا حج.
رد علية العجوز في
إقتضاب و هو منهمك في ملئ فراغات بنود العقد:
- عبده، عايز تسكن في أنهي دور.
– الشقة اللي فاضية في الدور الكام.
– العمارة كلها
فاضية ماعدا الخامس، شجة تسعة ساكنة.
(أحمد) في ذهول:
العمارة كلها فاضية؟!!!.
رفع (عبده) رأسه
ناظرا ل(أحمد) بوجه كالصخر، بعد أن فرغ من ملئ البيانات ماعدا تلك الخاصة ببنود
المستأجر، و لم يرد.
فأستطرد (أحمد):
مادام العمارة كلها فاضية و أنت صاحب العمارة، مش عايز تأجرهالي ليه أكتر من 6
شهور؟
نظر إليه (عبده) بنظرة ثابتة صارمة حازمة و رد:
- أنا نظام تأجيري أكده، العمارات كلها جدامك
ممكن تبص تاني و تشوف.
- طيب ماشي 6 شهور
6 شهور ، و لم يخلصوا يأما أكون خلصت شغل في القاهرة، يأما أدور في حتة تانية، و بتاخد كام في الشهر؟
- مش هنختلف.
- إن شاء الله
منختلفش طبعا، كام يعني؟
- أنا باخذ 400 في
الشهر.
إتسعت حدقتا
(أحمد) قليلا، و تقافزت الأفكار الشيطانية مجددا، صاحب عمارة يجلس وحيدا يحرسها و
جميع الشقق فارغة ما عدا شقة واحدة، يأجرها بحد أقصى 6 شهور بهذا السعر الزهيد، ة
لكنه فعلا سعر قليل سيوفر كثيرا بسببه و من الممكن أن أحاول بعد ذلك معه أن يمد لي
مدة الإيجار.
فسأله سؤال لعله يستشف منه أي شئ:
- بس 400 ده غير كل الناس اللي بيأجروا حواليك.
- أنا بأجر بسعر
جليل عشان أنا بشطرط مده معينه عالزبون، أصل الحج حج ياأستاذ (أحمد)، مجولتليش
هتاخد أنهي شجة؟
- اللي في الخامس،
جمب اللي ساكنة، ونس برده بدل الهو اللي أحنا فية ده، هاستلم أمتى؟
- من دلوك لو
حبيت.
ردد (أحمد) في
نفسه: دلوك!!! .. ده طالع من مسلسل طازة.
ثم رد علية بصوت
واضح:
- لأ إن شاء الله
هاجي بكرة عشان مش معايا شنطة هدومي.
- تيجي بالسلامة.
يتبع...