عمرو كان مستلقيا، هواء دافئ يحتك بقفاه و هو نائم على جانبة، ظن إنها من الممكن أن تكون ذبابة أو تيار هواء خفبف، سرح في تفكيره مرة أخرى و لكن ذلك الهواء الدافئ المحتك بقفاه يشعر به بشكل دوري منتظم و كأن أحد ما يتنفس بانتظام، فزع من مكانه ليجلس على السرير و ينظر حوله متفحصا المكان لم يجد شيئا غريبا، جميع زملاءه نائمين في سبات عميق .. بطرف عينه لمح شيئا مارا خارج الغرفة، طفل بخارج العنبر يركض مارا من أمام العنبر .. نزل من على سريرة ليتأكد من ما رأته عيناه .. خرج من العنبر لينظر للممر خارج الغرف و جد أحد ما يرتدي جلباب يركض باحثا عن مكان ما، ركض عمرو و راءه ليلحقه و لكن لم يبلغه فتوقف يلتقط أنفاسة، حتى سمع بعض الجلبة و الأصوات تأتي من خلفة إ لتفت خلفة وجد زملاؤه في العنبر واقفين متراصين صفوف ينظرون إليه نظرات خاوية غريبة، نظرات لا تخرج إلا من أموات لا تملأها أي مشاعر ، ابتدئوا من الاقتراب منه بخطوات بطيئة و هو ينادي على أساميهم و لكن لم يردوا عليه مكملين في الاقتراب منه حتى بدأ عمرو في الرجوع للخلف متوجسا خيفة منهم و من تصرفاتهم الغريبة .. ظل يرجع للخلف حتى أصطدم بالسور فتوقف و بدأ بالصراخ عليهم أن يتوقفوا و لكن لا حياة لمن ينادي بدأت أجسادهم تلتصق به، حملوه من أقدامه و بكل برود ألقوه من الدور الرابع.
أستيقظ عمرو بفزع صارخا يسمع صراخه العالي و من حوله يتجمع زملاء عنبرة و أقرب شخص له ناجي الأزهري محدقا بوجه يرى انه يتكلم معه و لكن لا يسمع صوته ثم و بعد برهة بدأ يسمع همهمة زملاؤه من حوله ثم سمع ناجي الأزهري يقول:
ـ فين السلسلة اللي سلمتهالك، شوفت لما ملسبتهاش حصل أيه و من أول يوم .. هي فين؟
بعين زائغة و صعوبة النطق أشار عمرو للدرج بجانب سريرة، فتح الأزهري الدرج و أخرج السلسلة ثم وضعها على رقبته بقوة أشار لهم الأزهري أن يبتعدوا قائلا لهم:
ـــ يلا كل واحد على سريرة و قفلوا الباب كويس و أزنقوا بأي حاجة من ورا و الشبابيك تربسوها بالترابيس الزيادة عشان الرياح شكلها قايم جامد و ربنا يستر علينا لأن دي علامة مش كويسة .. المركز مجالوش رياح قبل كده.
أغلق المجندون باب العنبر و النوافذ جيدا و أستلقى كل منهم على سريرة بالذات مع ارتفاع صفير الرياح بالخارج الذي يزيد الاجواء خوفا أكثر مما هم يعيشون فيه .. أحاط عمرو نفسه بغطاء السرير و كأنه سيحميه من رياح الخارج متذكرا الكابوس الذي كبس عليه و ذلك الرجل الذي كان يرتدي الجلباب يركض مختبئ، و وسط صفير الرياح خيل لعمرو أن هناك صوت شخص ما يصرخ، قام بجذعه محاط بالغطاء و هو ينظر في العنبر لم يجد أحدا مستيقظا أو صارخا .. رقد مرة أخرى ثم سمع ذلك الصريخ ثانية يتعالى مع علو صوت الصفير في الخارج و كأنهم يتحدوا بعض كلما يعلو صوت صفير الرياح يعلو صوت الصريخ أكثر .. ظل عمرو مستيقظا طوال ساعات الليل لم يطرف له جفن، حتى هدأت الرياح و صفيرها و أختفى صوت ذلك الصريخ رويدا.
جاء ميعاد الاستيقاظ .. هب كل مجند من سريره و كأنهم كلهم كانوا مستيقظين لم يناموا مثل عمرو .. يتحركون في خمول منظم من الحمام لارتداء ملابسهم و في خضم تحركات و تجهيزات الصباح سمعوا صوت أحد ما ينادي فزعا من الخارج .. أنه صوت محمود السباعي زميله في نفس العنبر.
أندفع عمرو و الطحلاوي و الأزهري في مقدمة من خرجوا من عنبرهم ذاهبين لمكان صرخة زميلهم السباعي ثم توقفوا مكانهم متسمرين ناظرين مندهشين خائفين متسائلين مترقبين .. التفت السباعي لناجي الأزهري سائلا:
ــ أيه ده يا ناجي؟
ابتلع ناجي ريقة ليبلل حلقة الذي جف و قال:
ــ زي ما أنت شايف يا سباعي.
توقف الجميع ناظرا لهذا الهيكل الجليدي على هيئة بشرية يقف ممسكا بقضبان نافذة عنبرهم من الخارج و كأنه كان محبوس أو مستنجد، التفت ناجي الأزهري للجميع آمرهم :
ـــ يلا كله يروح يكمل لبسه و ينزل عشان متتاخروش على الطابور .. اللي بيتأخر على الطابور بياخد جزا صعب عليكوا.
انصرفوا جميعا ما عدا الأزهري و قف ينظر للهيكل ثانية يتفحصه .. سار عمرو بجانب محمود السباعي سائله:
ــ أنت روحت هناك ليه يا محمود؟
رد محمود:
ــ كنت بدور على الصوت.
ــ صوت أيه؟
ـــ هو انت مسمعتوش ؟ .. صوت الصريخ اللي خلانا منماش إمبارح.
ــ أيوا سمعته و منمتش برده.
بينما هم يجرون هذا الحديث كان يمر زميل لهم في العنبر المجاور بحانبهم، نادي عليه عمرو:
ـــ صلاح يا غمري .. أنت سمعت إمبارح صوت الصريخ؟
رد غمري في إندهاش:
ــ صريخ أيه؟!!!
عمرو:
ــ إمبارح بليل كان في صوت زي ما يكون حد بيصرخ برة العنبر منمناش كلنا بسببه.
ــ لأ مسمعتش حاجة، مكنش في صوت.
توقف عمرو و السباعي عن السير في صدمة و تركهم غمري و انصرف، انضم لهم الطحلاوي قائلا لهم:
ــ مالكوا في أيه .. أنتو مكنتوش متفاجئين كده عند ال ال .. تمثال الجليد ده، في حاجة تانية؟!!
نظر كلا من عمرو و السباعي للطحلاوي ثم قال السباعي:
ـــ غمري اللي في العنبر اللي جنبنا بيقول أنه مكنش سامع صوت الصريخ اللي كنا سمعينه امبارح بليل.
توقف الثلاثة شاخصين صامتين خائفين و كل يوم يمر عليهم في هذا المكان يحمل غموض أكثر و مجهول أكثر، متسائلين عن مصيرهم و ماذا يدبر لهم القدر .. خيرا يحمد عليه أم خيرا لا يحمد على مكروها سواه.
مر اليوم بشكل عادي تماماً، من طابور لطابور ، من ميز للفطار لميز غذاء، الأحداث عادية و لكن أمخاخ المجندين مشتعلة بالتفكير من ما حدث .. انتقلت الإشاعات و القصص كالنار في الهشيم بين المجندين و صف الضباط و وصلت بمبالغة و خرافات أكبر و بدأ الخوف يملأ الجميع.
بعد ميز الغذاء أستدعى الضابط عادل الدميري المجند عمرو، دخل عمرو مكتب الضابط عادل و أدلى له التحية العسكرية ثم قال:
ـــ أفندم.
ــ ممكن أعرف يا محترم مسمعتش الأوامر اللي قولتها امبارح ليه؟
ــ أنا نفذت كل الأوامر يا فندم.
بصوت هادر عالي قال عادل:
ــ ملبستش ليه ام السلسلة يا ... اللي سلمهالك ناجي الأزهري.
بصوت مرتجف قليلا قال عمرو:
ـــ أ أ أ أ
ــ بسبب استهتارك و عدم تنفيذك للأوامر معرض كل عنبرك للخطر .. لأن عنبركوا بس هو اللي صمع أصوات غريبة امبارح.
ــ كل ده بسبب السلسة بتاعتي يا باشا.
ــ افهم يا غبي .. احنا سلسلة كلها مربوطة ببعض لو حد مننا قطع السلسلة بعدم تنفيذه للحاجات دي، هنسمح لحاجات غريبة أحنا مش قدها ممكن تتدخلنا .. و ده اللي أنت عملته.
سكت برهة و التقط نفسا ثم أكمل:
ــ اللي حصل حصل .. من انهارده .. لأ من دلوقتي، تنفذ كل حاجة بتتعمل في مركز التدريب تصلي معانا مش زي ما عملت امبارح و تعملي فيها بورام و متصليش .. أنا مش بقولك تصلي عشان ترضي ربنا انا بقولك تصلي عشان لو حد فينا مصلاش هيخوشلنا عن طريقة.
ـــ مين اللي هيوخشلنا؟
نظر عادل لعمرو و صمت طويلا كأنه يفكر في شئ ما ثم قال:
ــ معرفش يا عمرو .. يلا أمشي.
انصرف عمرو بعد التحية العسكرية و خرج من المكتب ليذهب للمسجد لصلاة المغرب جماعة .. نزل عمرو على ركبتيه ليخلع حذاءة فأمسكته يد من كتفه فنظر من أمسكه فوجده ناجي الأزهري قائلا:
ــ أنت بتعمل أيه؟
ــ هصلي.
ــ لأ انت هتصلي معايا في أخر جماعة و دي تعليمات عادل باشا رجلي على رجلك و أي حاجة غلط هتعملها هبلغه بيها.
أنقضت الست جماعات المغرب ودخلت الجماعة السابعة ، و قف ناجي الأزهري إمام للصلاة و من خلفة يقف عمرو و الطحلاوي و محمود السباعي متوسطين الصف الأول و كبر ناجي تكبيرة الإحرام .. و لكن ما حدث بعد ذلك نقل كل التوقعات و الأحداث لللا رجوع.
اتنهى الجزء الثالث
مع تحيات معتز حجازي
في إنتظار ارائكم و توقعاتكم